في خضم الأحداث المتوالية التي عانى منها أهالي غزة على مدار سنوات طوال، كان الحصار الإسرائيلي الذي ألقى بظلاله على كافة مناحي الحياة أسوء تلك الأزمات وأصعبها، وما زاد الطين بـلة.. السياسات والقوانين التي فُرضت على المسافرين وإغلاق المعابر والحدود ما سبب معاناة من نوع آخر لدى المواطنين، حيث أصبحوا عاجزين عن التنقل خارج القطاع بمن فيهم الحالات الطارئة كالطلاب والمرضى وجرحى الحروب،
ونتيجة ذلك نُسجَ الكثير من القصص الإنسانية التي خلفها الحصار، من هذه القصص حكاية ريتا وطاهر التي اهتزت لها القلوب ورُفعت الأيدي للسماء للدعاء لبطليها بالتوفيق ولم شملهما على خير.
“ريتا إسحاق” فتاة من غزة تبلغ من العمر26 عاماً، جمعتها قصة حب مع الشاب “طاهر المسلمــاني” 24 عاماً من قرية كفر قرع إحدى قرى الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1948، تقول ريتا:” شاءت الأقــدار أن يشاهد طاهر أحد أفلامي السينمائية ويعجب بها، فقد دُهش كيف لفتاة من غزة في مقتبل عمرها أن تتمكن من إخراج أفلام سينمائية في ظل الحصار وحالة الفقر التي طالت الجميع هناك، وعندما شاهد صورتي في إحدى التقارير التليفزيونية أعجب بي أكثر وبدأ التواصل بيننا الكترونياً وعبر الهاتف، ومن هنا بدأت علاقتنا لبضعة أشهر كزميلَي مهنة واحدة فقد كان هو أيضاً يعمل في مهنة الإخراج”.
وتضيف ريتا:” استمرت علاقتنا على هذا النحو ما يقارب خمسة أشهر كانت كفيلة بأن يحبني طاهر خلالها ويتعلق بي، اعترف لي بحبه وطلب مني الزواج مباشرة، كانت مفاجأة بالنسبة لي بل وأكثر من ذلك، أخبرته أنه لا يمكنه المجيء إلى غزة ولن نتمكن من الارتباط، ولكن بدى عليه الإصرار فيما يقول ورفض أن تشكل الحواجز الإسرائيلية وأزمة المعابر عقبة أمام حبنا وسعادتنا، تمكن من الحديث إلى والدي وطلبني منه، فلم يكن منه إلا أن وافق بعدما كنت قد أوضحت له الأمر، وافق على الفور وقرآ الفاتحة عبر الهاتف وبقينا قيد انتظار التصريح الإسرائيلي الذي سيمكننا وعائلتينا من الوصول إلى مدينة رام الله لعقد القران”.
وتواصل ريتا حديثها:” ما خشيناه فقد حدث، حيث رفضت إسرائيل منحنا تصريح الدخول إلى رام الله، فقررنا أن نلتقي في مصر ونتزوج هناك، وبالفعل قمنا بالإجراءات الرسمية اللازمة حتى حدد تاريخ سفرنا في 4/7/2011، ونظرا لكثرة المشاكل والعقبات الجارية على الحدود المصرية الفلسطينية تم تأجيل الموعد إلى 15/8/2011، حينها ذاق طاهر ذرعاً ولم يستطع الصبر أكثر فقد شعر بأن سفرنا سيبقى قيد التأجيل، ووقتها لم يجد أمامه حلاً سوى الدخول إلى قطاع غزة خِفية، وفعلاً اجتاز المعابر والحدود في الأراضي الفلسطينية المحتلة حتى وصل مدينة العريش المصرية، ومن العريش إلى رفح المصرية قاصداً بذلك دخول غزة عبر الأنفاق، دفع مبلغاً من المال للعاملين هناك ودخل النفق متجهاً إلى محافظة رفح الفلسطينية مضحياً بحياته وضارباً بها عرض الحائط”.
دقائق معدودة داخل النفق تُمكن طاهر من الوصول إلى حبيبته، ولكن تلك الدقائق نفسها كانت كفيلة بأن تُودي بحياته لو قامت قوات الاحتلال وقتها بضرب الأنفاق بأحد الصواريخ المفاجئة، ولكن الله تعالى كتب له النجاة وقدَر له دخول القطاع حياً يُرزق.
هامت عيون ريتا في عالم آخر بصحبة ابتسامة حملت بين ثناياها دمعة وفاء وتقدير لحبيبها، وأخذت تتذكر لحظات لا تنسى لتسردها لي:” في الساعة الحادية عشرة صباحاً رنَ هاتفي، فإذا به طاهر يتحدث إليَ من غزة ويقول لي: ريتا أنا الآن في غزة وأتوق شوقاً لرؤيتك، وصلت غزة وأنا بخير، أريد أن أراكِ، أين أنت الآن؟
أعترف أنني بكيت ساعتها فلم أصدق أن حلمنا بدأ يتحقق، أخبرته بشوق عن مكاني وكيفية الوصول إلي، وبعد أقل من ساعة كان في مكتبي يسأل زملائي عني وأنا أسمع صوته، بدأت أهرب من مكان إلى آخر لِأعي حجم المفاجأة قبل أن أشاهد وجهه لأول مرة حتى وصل إلى مكتبي، فتح الباب بسرعة ورأته عيناي أخيــــراً، لم أستطع أن أسيطر على نفسي، غطيت وجهي بيدي وأجهشت في البكاء، اقترب مني وضمني إليه وهو يبكي”.
ابتسمت ريتا وأخذت نفساً عميقاً وعادت لتواصل حديثها:” مرت ثمانية أيام لا أدري كيف مرت، مكنتنا من عقد قراننا خلال حفل عائلي صغير تعرف طاهر خلاله على عائلتي وأصدقائي، لا شك أنها كانت من أجمل أيام حياتي، حتى دق جرس العودة إلى قريته في تاريخ 13/7/2011، كنت على تواصل مستمر معه حتى خرج من النفق بسلام وتوجه إلى الأراضي المحتلة، اجتاز جميع الحدود كما كان مخطط له حتى وصل إلى معبر طابا الواقع ضمن سيناء المصرية، وبقيت الأمور تسير على ما يرام إلى أن اعترض الحافلة التي كانت تقله مجموعة من الجنود الإسرائيليين، وعلى الفور أمروا بالقبض عليه بتهمة دخوله غزة دون تصريح رسمي من الحكومة الإسرائيلية”، صمتت ريتا قليلاً حين ابتلت وجنتاها بالدموع ومن ثم تابعت قائلة:” أفرجوا عن طاهر بتاريخ 5/8/2011 بعد 23 يوماً من الاعتقال حين قدم لهم ورقة زواجه مني والتي كانت سبباً في خروجه من المعتقل، لكنها لم تشفع له عند محاكمته، فقد فرضت عليه المحكمة الإسرائيلية دفع غرامة مالية كبيرة، بالإضافة لمنعه من السفر خارج البلاد مدة ستة أشهر متواصلة”.
وبهذا لم تنتهِ حكاية هذين العاشقين الذين تحدا الحواجز والحدود، وتخطيا القوانين الإسرائيلية الجائرة التي فُرضت عنوة على الفلسطينيين في كل مكان، في قطاع غزة والضفة الغربية وأراضي الداخل المحتل، بل كانت بداية لقصة فلسطينية عطشى لا ترويها سوى الدموع والتضحيات.
وفي ختام حديثي مع ريتا، أخبرتني أنهما أصبحا الآن زوجان شرعاً وقانوناً شاء الحصار الإسرائيلي بذلك أم أبى، وأنهما سينتظران بضعة أشهر ليجهزا نفسيهما للعيش سوياً في الضفة الغربية أو سيقومان بتقديم طلب لجوء إنساني لإحدى دول أوروبا، وتعهدت ريتا على نفسها بأنه مهما ستحمل أيامهما القادمة من مشقة إلا أنها على قناعة تامة بأن عليها أن تضحي من أجل زوجها وحبيبها بحجم التضحية التي قدمها إليها.. بل وأكثر.
ريتا وطاهر جسدا نموذجاً واحداً فقط من آلاف القصص الإنسانية المتعثرة في غزة بفعل الحصار الذي تعهد على نفسه بأن يفرق شمل أبطالها، وما عاشه ويعيشه كل هؤلاء يعد انتهاكاً صارخاً لحقوق الإنسان الفلسطيني في كافة أماكن تواجده وحرمانه من السفر والتنقل بحرية داخل وطنه المحتل.